على مدى عقود من الزمن إرتبطت البيعة في المغرب بنظام إمارة المؤمنين إرتباطا وثيقا،جانبه السياسي الإمارة وجانبه الديني البيعة ويثم في هذا النظام عن طريق التعاهد والتعاقد على تبادل الحقوق والواجبات من خلال عقد البيعة والذي يعتبر مكونا أساسيا في القانون العام المغربي يجد مرجعيته في الفقه الإسلامي وكذا في الفقه الدستوري الحديث مع تطور نظام الحكم بالمغرب مند اول دستور بعد الإستقلال ، دستور1962 ، وصولا الى دستور فاتح يوليوز 2011 .
ولنظام إمارة المؤمنين مرجعية دينية وتاريخية منتجة لآثارها السياسية ،فالمغاربة عندما يثحدتون عن البيعة فإنهم يتحدثون عن إمارة المؤمنين فالمفهومان مترابطان وليس منفصلين أو مستقلين .
وبإعتبار البيعة وإمارة المؤمنين أساس النظام المغربي، أمر يفرض علينا بيان مفهوم وأصل كل مصطلح وخصوصياته في النظام السياسي والدستوري المغربي ،وكيف شكلت القاعدة الدستورية شكلا حديثا وعصريا للنشاط السياسي؟ ومدى نجاعة بلورة القواعد الدستورية في وثيقة مكتوبة تشكل الإطار المرجعي الضابط للممارسة السياسية بالحد من مجال السلطو وضبط الصراعات والنزاعات عبر الشرعية (البيعة وإمارة المؤمنين )،مادام أنه يبلور آليات ووسائل الوصول الى السلطة داخل الدولة .
تتحدث طبيعة الدولة في التجربة الغربية من خلال الأسس والمسلمات الفلسفية التي تقوم عليها كشكل من أشكال التنظيم ، أولهما الحرية وهي الكلمة المفتاح التي يقوم عليها كتاب روح القوانين لمنتسكيو ،فالحرية يترتب عنها الإعتراف بالفرد كقيمة والإعتراف بحقوقه وحرياته وإستعادته لسيادته التي كانت تصادرها العديد من القوى باسم الحق اللإلهي وتحجيم دور الكنيسة وتقليص صلاحيات رجال الدين وتجلى حينها عن مارتن لوتر بالدفاع على جعل سلطة النص المقدس محل سلطة الكنيسة المطلقة ،فإنتقل من الولاء للدين الى الولاء للدولة بشكل عقلاني لتنظيم المجتمع ،أي الإيمان بالعقل كأداة للتحرر من كل المسلمات والأفكار المسبقة التي كانت تحجر على الفرد بإسم القوى الغيبية والدين فحالت دون تحرره .فالعقل حرر الإنسان ومكنه من إبداع أشكل جديدة للتنظيم السياسي والمجتمعي .
لنصل من خلال هذه ابمقدمة الى خصوصية وطبيعة مفهوم الدولة والحكم في التجربة الإسلامية المبني على البيعة ونظام الخلافة والإمارة وطبيعة النظام السياسي المغربي المبني على مكونين أساسيين البيعة وإمارة المؤمنين باعتبارهما اللحمة التي تجمع مكونات الأمة المغربية على مر التاريخ والتي ميزته عن باقي الانظمة العربية الاسلامية .
ومؤسسة البيعة في التجربة السياسية المغربية تنفرد بمجموعة من الخصوصيات الهدف منها تجدير الهوية الوطنية المغربية،ذلك أنها تأتي في صيغة عقد مكتوب يكتسي صيغة تعاقد ويحاط بقيمة رمزية كبيرة داخل النظام السياسي المغربي جاءت تلبية لفكرة وحاجة إجتماعية لدى المغاربة حيث خلقت لديهم شعورا بالإختلاف والتميز تجاه الآخرين، فدافعوا عنها في سنوات الشدة والرخاء لأنها أصبحت تعبيرا عن وجودهم ودورهم الإجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري .وقد شكلت البيعة في المملكة المغربية تجديدا للنظام السياسي الذي يحتفظ برموزها المختلفة والتي كانت علامة بارزة في إعطاء النظام تلك العظمة في أبعادها العميقة المرتبطة بالسيادة والمعبرة عن إستقرار الحكم وعلامة على إستمراريته بإعتبارها الشرعية التاريخية والدينية والسياسية وبإعتبارها المشروعية لقبول الأمة لإمامها.
كما ينطلق مفهوم إمارة المؤمنين في المغرب من كون الإسلام دين ودولة وأن له نظام سياسي يتميز به خارج عن مفاهيم الدستورانية الغربية ومختلف عنها ،ثم أن هناك بيعة والتي تشكل الميثاق والصلة التي تربط بين الحاكم والمحكوم .
فإمارة المؤمنين ليست بعدا مفاهيميا مرتبطا بنظام الحكم في المغرب فحسب بل هي استراتيجية مفاهيمية وتاريخية متعددة الابعاد يؤطرها التاريخي والديني والمجتمعي عبر توارث منسجم مع المجتمع المغربي الذي ينشد الوحدة بما هو نسيج متعدد المشارب الإنتمائية التي لا يوحدها أصل عرقي ،فالهوية المغربية الأمازيغية والعربية والصحراوية والاندلسية تنصهر في تعاضد عرقي وتاريخي تحت وحدة تسمى المفرد بصيغة الجمع تحت راية إمارة المؤمنين .
وهو توجه مجتمعي أجمعت الأمة بمقاصدها وتجلياتها بناء مصالحة مفاهيمية نسجها الماضي لتثمر في حاضر يعد التعدد مكسبا مجتمعيا لدولة المغرب.
وتقوم مؤسسة إمارة المؤمنين في النمودج المغربي على المساهمة في بناء الدولة الحديثة ،كما أن لهذه المؤسسة مجالها الروحي والقيمي في الحياة الدينية للمجتمع كما لهادور في تدبير مصالح المجتمع السياسي في تدافع وتنافس أفراده ومكوناته البشرية والطبقية وسعيه الى الأفضل،غير أن إمارة المؤمنين وإن كانت تعنى بالشعور الديني للأمة ورعايته ،فإن ذلك لا يعني إنفصالها التام عن التدبير السياسي الذي يساهم به الملك كرئيس للدولة .
وبخلاف تحليلات ساقها بعض المختصين في العلوم السياسية ممن يرون أن إمارة المؤمنين ليست مؤسسة فإنهم أغفلوا أن الدستور المغربي في تناوله لنظام إمارة المؤمنين ولو لم يحدد طبيعتها فإن تواجدها قائم من خلال الفصل 19 والذي جاء فيه أن الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدثها وضامن دوام الدولة واسستمرارها وهو حامي حمى الملة والدين والساهر على إحترام الدستور وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لأستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة ،فإمارة المؤمنين ترتكز على نظام يقوم على البيعة الشرعية وله وظائفه وإختصاصاته .
ناهيك على ان الخطابات الملكية ركزت في أكثر من موضع على الطابع المؤسسي الشرعي لإمارة المؤمنين ومنها خطاب إعادة هيكلة الحقل الديني بالقصر الملكي بالدار البيضاء في 30أبريل 2004 .
كما يقدم دستور 2011 في ديباجته المملكة المغربية بأنها “دولة اسلامية ذات سيادة كاملة” ويضيف الفصل الثالت منه على أن “الاسلام دين الدولة ،والدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية ” .
ويؤكد الفصل 41من الدستور بأن “الملك ،أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية .”
فهذه النصوص الدستورية هي الكفيلة برسم شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي ونمط الحكم وتضع لنا معالم دولة ذات طبيعة دينية يتولى تدبير شؤونها الدينية والسياسية أمير المؤمنين .
فجميع الدساتير المغربية وعلى رأسها دستور 2011 وطدت لمعالم دولة مدنية فيها مواطنون أحرار متساوون في الحقوق والواجبات ويشكلون مصدر السلطات التي يفوضونها لمن يمارسها بالنيابة عنهم في إطار نظام حكم ملكي دستوري وديمقراطية إجتماعية وبرلمانية (الانتقال من مفهوم الرعية الى مفهوم المواطنة ).
ويبقى دائما التساؤل مطروحا حول جدلية البيعة وإمارة المؤمنين وحول دورها في تفسير تاريخ المغرب خصوصا أن امتداداتها تهم مغربنا المعاصر الذي يسعى جاهدا الى الحفاظ على الاصول والجدور وعدم التفريط فيها .ولكن كذلك في محاولة الخضوع لمنطق التطور والتجديد ومسايرة العصر .
هنا تتلخص طبيعة الدولة المغربية وهوية القانون الدستوري المغربي الذي لخص تصورين للدولة ،آليات دستورانية غربية وهوية مغربية أساسها عقد البيعة وإمارة المؤمنين .
ذ/الحسين بكار السباعي
محام بهيئة المحامين بأكادير والعيون.
رئيس مرصد الجنوب لحقوق الأجانب والهجرة.
ممثل المنظمة الدولية IOV التابعة لليونسكو بالصحراء المغربية.
باحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان.