حدثان بارزان هيمنا على واجهة الأحداث في غضون الأيام القليلة الماضية. متناقضان، متناغمان، متفرقان، لكنهما يحيلان على حقيقة ساطعة، ووحيدة، لم تتمكن قرون من الكذب والتزوير وعقود من تدريس التدليس، من حجبها، وهي أن المغرب بلد أمازيغي له خصوصيته الحضارية المتفردة.
الاول يتمثل في ظهور الفنان سعيد المجرد على منصة القرية العالمية Global Village بمدينة دبي الإماراتية، بجلباب مراكشي يحمل بنديرا “تالونت” موشوم بالحناء على واجهته حرف ياز الامازيغي مكتوب بتيفناغ بخط عريض، وتحيط به حروف أمازيغية أخرى على اطار تالونت/ البندير.
واختار سعد المجرد أن يفتتح سهرته التي حضرها جمهور كبير من مختلف الجنسيات العالمية، بأغنية السلام داغ أعليكم السلام، وهي اغنية أمازيغية معروفة في الجنوب، استطاع المجرد أن يمزجها ويطورها لحنا وأداء في قالب فني جديد بالاسلوب الغنائي الشبابي الذي يمتاز به المجرد. وإن لم يكن سعد المجرد ناطقا بالامازيغية وإنما نجح نجاحا باهرا في أداء هذه الأغنية بالإيقاعات الأمازيغية الجميلة، ويُحسب لهذا الفنان المغربي الذي وصلت نجوميته آفاقا عالمية وتنتشر أغانيه بشكل واسع جدا، اشتغاله على التراث الامازيغي المغربي بمختلف اصنافه، وساهم في نشر الوعي بالثقافة الأمازيغية ورموزها وايقاعاتها لدى جمهور واسع في مختلف بقاع العالم. واتضح من خلال افتتاحه للحفل الأخير في دبي بأغنية السلام داغ أعليكم السلام، وجلبابه المغربي الذي قيل أنه من تصميم صديق له بمدينة مراكش، وكذا حمله لآلة البندير بمعية الفنانون/ ات الراقصون بجانبه، اتضح أن سعد المجرد يريد أن يبعث برسالة واضحة مفادها أن المغرب مختلف عن الشرق، وله حضارة مميزة يستمدها من عراقة تاريخه الامازيغي الافريقي. لاسيما وأن البندير الذي حمله المجرد في أداء هذه الأغنية واشتهرت به، هو آلة موسيقية تخص فقط المجتمعات الأمازيغية بشمال افريقيا، ولا نجد لها أثر في باقي المناطق إلا بفضل عوامل التأثر والتثاقف. فسواء كان المجرد واعيا بهذه الأمور أو لا، فإنه ينتمي إلى صحوة ثقافية يعيشها الإنسان المغربي بشكل عام عنوانها العودة إلى الذات، أو إعادة اكتشاف الذات الأمازيغية الدفينة داخل الضمير المغربي، ولا توجد طريقة مثلى للتعبير عن تلك الصحوة افضل من الفن والايقاع والموسيقى. الفنان الذي يصل إلى العالمية والنجومية مثل سعد المجرد يحتاج دائما إلى الخصوصية وإلى التميز، لذلك نرى المجرد غالبا ما يميل إلى الغناء بالدارجة المغربية حينما يحل على أكبر منصات الشرق. فالدارجة المغربية تعبير عن الخصوصية الأمازيغية و الإفريقية. هي تعبير عن هوية مميزة. فكل فنان مغربي او فنانة مغربية يتخلى عن الدارجة المغربية حين يحل بالمشرق أو بلدان الخليج ويحاول الغناء بالخليجية او بتعبيرات أخرى في الشام، يسقط في اللامعنى ويفقد للحس الفني. لأنه يتحدث أو يتقمص شخصية ثقافية أخرى دون شخصيته التي تميزه وتعبر عن جوهر وجوده وعن اصالته الثقافية والحضارية.
أما الحدث الثاني، يتجلي في طريقة كلام النائب البرلماني هشام آيت منا أثناء القائه لكلمة داخل مجلس النواب مباشرة على القنوات العمومية، حيث ظهر وهو يواجه صعوبة كبيرة في قراءة ما هو مكتوب على الورقة باللغة العربية الفصحى، يتلعثم في نطق الكلمات وتركيب الجمل، وظهر مرتبكا ومتذبذبا يقول كلاما غير واضح وغير مفهوم بسبب طريقة نطقه وعدم معرفته للغة العربية الفصيحة. وقد واجه حملة سخرية كبيرة لدى المواطنين والرأي العام. وفي الحقيقة ومن وجهة نظري الشخصية، فحالة آيت منا عادية جدا في المجتمع المغربي، لسبب بسيط لأنه هشام آيت منا ليس عربيا وإنما هو مواطن مغربي أمازبغي ازداد بالمحمدية من أصول نواحي وارزازات، هاجر والده إلى المحمدية هروبا من الفقر والتهميش واشتغل في البناء ثم استثمر في العقار والتجارة والصناعة وأصبح من أثرياء فضالة، وورث ابنه هشام ثروة ابيه وطورها ثم أصبح برلمانيا. لكن المشكل يكمن أن النائب البرلماني يعيش في “دولة عربية” التي تحكم مجتمعا وبلدا امازيغيا وهو المغرب، يتحدث سكانه بالامازيغية والدارجة والعبرية ولغات أخرى كالفرنسية والاسبانية… هذه “الدولة العربية” تفرض اللغة العربية الفصحى في المدرسة والادارات ووسائل الإعلام التابعة للدولة.
وبالرغم من التحولات السياسية والثقافية الكثيرة التي طرأت مؤخرا كتغيير الدستور وترسيمه للأمازيغية وقوة الحركة الأمازيغية التي حققت مكتسبات كثيرة، وانتشار الوعي الامازيغي في صفوف الشباب والنخب… إلا أن الدولة المغربية / العربية لا تريد أن تتخلص من اوهامها الايديولوجية وأساطيرها المؤسسة وظلت تتشبث باللغة العربية التي تعتبرها لغة مقدسة، مما يجعلها أي الدولة تعاني من تناقض صارخ وتعاني من “انفصام الشخصية”، فرغم ترسيم الأمازيغية و اعترافها بالتعدد اللغوي والثقافي إلا أنها تفرض فرضا استعمال اللغة العربية الفصحى في الخطاب الرسمي للدولة. وهذا الانفصام والتناقض تعاني منها الأحزاب السياسية خاصة الموالية للإدارة والتابعة للسلطة مثل الحزب الذي ينتمي إليه النائب البرلماني آيت منا، فهو حزب يستغل الأمازيغية استغلالا مفضوحا وفجا في خطابه السياسي الانتخابي، وكذلك بالنسبة للدارجة التي كانت لغة حملته الانتخابية طيلة سنوات حتى شعاراته السياسية التي يذبج بها أوراقه الانتخابية ومناشره كلها كانت بالدارجة والعامية مثل ” هبط تخدم” تستاهلو.. واغراس اغراس الخ.. لكن بمجرد ما تمكن الحزب من المراد وهيمن على المؤسسات فرض على نوابه بالبرلمان وزرائه الحديث مع المغاربة باللغة العربية الفصحى التي تأكد أن الحزب وكوادره ونوابه وزرائه وحتى رئيسه الذي يتولى أيضا منصب رئيس الحكومة، لا يعرفون اللغة العربية ولا يحسنون التحدث بها قراءة وكتابة، فلماذا إذن يفرضونها على المغاربة. كان بالأحرى على الفريق البرلماني لحزب الذي ينتمي إليه هشام آيت منا أن يكتب له مداخلة بالدارجة إذا لم يكن هشام لا يثقن الحديث بالامازيغية.
في الحقيقة يجب أن ندافع عن هشام آيت منا ونشجعه على الاعتراف والاعتزاز بذاته، وأن يعود إلى بلدته بنواحي وارزازات ويعمق معارفه في اللغة الامازيغية، ويقضي بها العطل والمزيد من الوقت ويبني منزلا بدوار ويساهم في تنميته ومساعدة جيرانه، لكي يتخلص بشكل نهائي من الانفصام في الشخصية، ويشعر بالفخر والاعتزاز وهو يتحدث بالامازيغية لغة الدستور في البرلمان. لا أن يحس بالحرج ويهرب من الواقع ويجيب الصحافيين بكونه تلقى تعليمه باللغة الفرنسية ولا يجيد الحديث باللغة العربية. فهذا عذر أكبر من زلة. فكان عليه أن يقول لهم انا مواطن مغربي اتحدث بالامازيغية والدارجة ولست عربيا. أما الفرنسية فبعيدة كل البعد عن الموضوع.
الصورة التي ظهر بها آيت منا وهو يلقى مداخلته داخل البرلمان، هي الصورة الحقيقية “للدولة المغربية العربية” التي تفرض استعمال اللغة العربية الفصحى في خطابها الرسمي.
عبدالله بوشطارت.