حجاب المغربيات .. ادخار اقتصادي والتزام ديني ومآرب شتى

صرخة27 مايو 2017
صرخة
الرأيالرئيسية
حجاب المغربيات .. ادخار اقتصادي والتزام ديني ومآرب شتى

عرف المشهد المغربي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي تزايد ظاهرة “المرأة المحتجبة”، والاهتمام العام الذي ترتب عن ذلك، وردود الفعل المختلفة، سواء من طرف السلطة أو من طرف المجتمع.

ولعل مرد هذا الاهتمام العام يكمن بالأساس في الظرفية الدولية والمحلية التي انطبعت بعدة مظاهر، من أهمها:

– التجارب الأصولية التي مورست في بعض البلدان العربية والإسلامية، وبالأخص الثورة الخومينية، بما رافقها من تشديد حول ارتداء الحجاب.

– تزايد الدعوات الأصولية إلى ضرورة ارتداء الحجاب، خاصة في مصر والسودان والجزائر…

– ازدهار الحركات الأصولية بالمغرب وتأكيدها على ارتداء الحجاب.

– التأثير الإعلامي للفضائيات العربية وخاصة الخليجية منها.

– الموضة التي انتشرت في بعض الأوساط النسوية المغربية، التي تميزت بارتداء الحجاب، خاصة بعد تزايد وتيرة إقامة المغربيات بدول الخليج، إما بسبب العمل أو بسبب السياحة.

وكما تعاملت السلطة في بداية السبعينيات مع “ظاهرة الهبيين”، من قص للشعور الطويلة واللجوء إلى الانتقاد الإعلامي والفني (أغنية محمد الإدريسي عن الهيبي) ستلجأ السلطة إلى مراقبة هذه الظاهرة وتتبعها أمنيا. أما المجتمع فتعامل مع هذه الظاهرة بنوع من الحذر والبرغماتية، إذ استغلتها كل فئة من فئاته من منطلقاتها الفكرية والمصلحية والاجتماعية. غير أن هذا التعامل لم يؤد مع ذلك إلى وضع تمييز خاص بين المرأة “المحجبة” والمرأة “المحتجبة”. فالأولى ظاهرة نسوية مغربية قديمة، في حين أن الثانية ظاهرة نسائية معاصرة.

1 – المرأة المحجبة

إن ظاهرة المرأة المحتجبة تعتبر ظاهرة نسوية قديمة نسبيا في تاريخ المغرب. والحجاب ارتبط دائما بجسد المرأة، خاصة في الحواضر، نتيجة الذهنية المالكية المتشددة وتقسيم المجال العام بين الرجل والمرأة. فالمرأة لم يكن يسمح لها بالظهور في المكان العام، حتى ولو كان مسجدا، إلا ملتفة ومستترة. كما أنه لم يكن يسمح بإظهار الجسد الأنثوي إلا ما اقتضته ضرورة التحرك والمشاهدة، كالعين أو اليدين. لكن أمام شيوع الأفكار السلفية وتزايد التطور الحضري وتغير الظرفية الاقتصادية التي حتمت خروج المرأة إلى العمل، أصبح النقاب هو الوسيلة المثلى لتحرك المرأة في عالم الرجال والخضوع لشروط الاختلاط بين الجنسين. وبانتشار التعليم والتأثر بمظاهر الحياة العصرية الأوربية، وما صاحب ذلك من دعوات لتحرير المرأة المغربية، عوض النقاب بالحجاب.

ففي منتصف السبعينيات انتشر الحجاب داخل الوسط الحضري، حيث أصبحت بعض الشرائح من النساء، خاصة العناصر الشابة، تقبلن عن وضعه، غير أن وضعه كان يخضع لاعتبارات خاصة، سواء كانت أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية.

– الحجاب والاعتبارات الأخلاقية

إن انتشار الملابس النسوية القصيرة والقصيرة جدا، وارتداء البنطلون وغيره من أنواع الملابس ذات الطابع الأوربي، كانت تستفز الكثير من مكونات المجتمع المغربي. فقد بقي المجتمع المغربي، رغم مظاهر العصرنة التي يتشح بها، مجتمعا محافظا في عمقه، أو على الأقل يجهد في التشبث بمظاهر الحشمة والوقار. لذا حرصت هذه المكونات على المظهر المحتشم للبنات أمام تزايد الاختلاط الجنسي وضرورات الحياة العصرية. من هنا وجدت بعض الفتيات في ارتداء الحجاب حلا وسطا يسهل اندماجهن في الحياة العصرية مع مراعاة بعض مظاهر الحشمة والوقار التي مازال المجتمع المغربي يوليها اهتماما كبيرا.

– الحجاب والاعتبارات الاجتماعية

إن تفتح الحياة الاجتماعية المغربية وانفتاح شرائح عريضة من النساء أثر بشكل كبير على معايير التمييز والانتقاء بين الجنسين؛ وبالتالي، فمع استفحال أزمة الزواج نظرا لصعوبات الحياة اليومية وتعقد الوضعية الاقتصادية وتزايد الانحلال والتفسخ الخلقي، لجأت العديد من الفتيات إلى الإقبال على ارتداء الحجاب إظهارا منهن لحسن الأخلاق وتأكيدا على تمتعهن بكل المؤهلات الخلفية التي ينبغي أن تتوفر في الزوجة الصالحة وشريكة الحياة المحتملة. وفي هذه الحالة، غالبا ما يكون ارتداء الفتاة للحجاب ظرفيا ينتهي إما بعيد الزواج أو بعد نفاذ صبرها في العثور على الزوج المنتظر.

كما أن هناك شرائح أخرى من الفتيات يقبلن على ارتداء الحجاب لتفادي مختلف المعاكسات المتنوعة، خصوصا في الأمكنة العامة، سواء كانت شوارع أو مقاهي أو دور سينما أو مؤسسات تعليمية وغيرها.

– الحجاب والاعتبارات الاقتصادية

أمام التأثيرات السلبة للأزمة الاقتصادية التي يعيشها المغرب منذ بداية الثمانينيات، وانعكاسات ذلك على شرائح مهمة من الشباب، من بطالة وانخفاض في القدرة الشرائية، وأمام متطلبات الحياة العصرية التي تفترض الظهور بالمظهر اللائق، لجأت بعض الشرائح من الفتيات إلى الإقبال على ارتداء الحجاب، لما يوفره ذلك من تسهيلات اقتصادية:

الاقتصاد في مصاريف الحلاقة.

الاقتصاد في اقتناء الملابس؛ فارتداء الجلباب ووضع الحجاب سيوفر على الفتاة عناء استبدال ملابسها والاهتمام بشكلها.

تجنب الظهور في وضعية اقتصادية مزرية.

ارتداء الزي التقليدي سيجنب الفتاة المحتجبة بالتالي التعرف على وضعيتها المالية.

وعموما فإن المرأة المحجبة ظاهرة نسوية خاصة يوظف فيها الحجاب لاعتبارات تبتعد عن أي التزام سياسي محدد، بخلاف ما هو عليه الشأن بالنسبة للمرأة “المحتجبة”.

2 – المرأة المحتجبة

بخلاف المرأة المحجبة التي تعتبر ظاهرة نسوية من صميم الموروث الاجتماعي المغربي، فإن ظاهرة “الاحتجاب” تعد ظاهرة مرتبطة بالأساس بازدهار الحركة الأصولية بالمغرب؛ وبالتالي فإن قرار المرأة الاحتجاب يعد قرارا نابعا إما عن التزام ثقافي أو سياسي أو إيديولوجي.

– الحجاب كالتزام ثقافي

من المعروف أن الاستعمار عندما دخل إلى المغرب عمل على نشر ثقافته بمظاهرها الدينية والثقافية وكذا بأنظمته في المأكل والمشرب والملبس؛ وبالتالي فتغلغل الاستعمار في التركيبة الاجتماعية المغربية ارتبط بعملية السفور، إذ بدأ المغاربة يتخلون شيئا فشيئا عن عمائمهم وطرابيشهم ويمشون حاسري الرأي، أما النساء فتخلين عن جلابيبهن ونقاباتهن ليرتدين الزي العصري ويمشين عاريات الرأس.

وفي منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي شهد المغرب صحوة ثقافية استندت بالأساس إلى انتقاد النموذج المغربي والتأكيد على إفلاسه. وقد تزعمت الحركة الأصولية تيار مواجهة الغرب والتصدي لغزوه الثقافي، بعدما اكتسح المجال الفكري والاجتماعي، خصوصا بعد توفره على قنوات الاتصال التلفزي والنقل “البارابولي”.

هكذا شددت هذه الحركة على أبعاد الصراع الحضاري، وتهديدها للهوية الوطنية، بما فيها الهوية النسوية. من هنا ظهر الحجاب كنوع من الالتزام الثقافي والتشبث بالهوية السلفية، من خلال مواجهة النموذج الغربي بالنموذج الإسلامي. فتقليد لباس نساء العصر الراشدي والتشبه بهن هو محاولة للتشبث بالأصول والسير على نهج السلف الصالح. كما لعب الحجاب دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية الروحية، وخاصة بين أوساط المهاجرات، ما أثار “مسألة الحجاب”، خاصة بفرنسا وبلجيكا.

– الحجاب كالتزام إيديولوجي

تميزت مرحلة نهاية السبعينيات بمشاركة حزب الاستقلال في الحكومة، وتقلد أحد أعضائه وزارة التعليم. وقد استغل الحزب تسلمه لهذه الوزارة فبدأ في تمرير مشروعه في استكمال تعريب أسلاك التعليم وتأكيد أسلمة شعبه. وفي هذا الإطار تم خلق مجموعة من كليات الآداب والعلوم الإنسانية والإكثار من شعب الدراسات الإسلامية. لكن أمام تقلص موارد التعليم وانسداد آفاق استيعاب خريجي هذه الكليات والشعب، والتي كانت تلتحق بها الفتيات بكثرة، تراكمت أعداد الخريجات المعربات العاطلات، ما تم استغلاله من طرف التيارات الأصولية التي عملت على تأطير هذه العناصر أيضا من خلال الحفاظ على التماسك التنظيمي لهذه الحركات، عبر تسهيل عملية التزاوج بين أعضائها.

ووجدت التيارات الأصولية المغربية في الحجاب أداة سياسية لعبت عدة وظائف، من أهمها:

التأكيد على التمييز السياسي

استغلاله كوسيلة للدعاية السياسية

استغلاله كوسيلة للتحرك السياسي

من هنا حرصت التيارات الأصولية على ضرورة ارتداء عضواتها و”مناضلاتها” للحجاب والجلباب الإسلامي، الذي غالبا ما يختلف من تيار أصولي لآخر. ولعل ما يؤكد ذلك تعليمات بعض القيادات الأصولية لمناضليها من الذكور بحلق اللحية لتجنب مراقبة السلطة والتمويه عليها؛ في حين استمرت “الأخوات” في ارتداء الحجاب، في دلالة على الإصرار والتحدي، حتى أصبحت تنعت كل من تضع الحجاب في الأوساط الشعبية المغربية بـ”الإخوانية”.

3 – السلطة والبرقع

في سياق المواجهة الاستباقية لتهديدات السلفية الجهادية، سواء من خلال تفكيك الخلايا الجهادية أو مراقبة تحركات نشطاء هذه التيارات، أو نشر وحدات ما سمي “حذر” في مختلف المواقع الحساسة، صدر قرار غير معلن من وزارة الداخلية إلى مختلف مصالحها بمنع إنتاج وتسويق لباس “البرقع”، إذ بلّغ العديد من تجار هذا اللباس من طرف أعوان السلطة بضرورة الامتناع عن الاستمرار في صنعه وتسويقه.

وأثار هذا القرار الذي لم يتم إعلانه في أي بيان رسمي جدلا واسعا عكسته بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، حيث ندد العديد من النشطاء والمنتمين إلى بعض التيارات الأصولية، خاصة بعض ممثلي التيارات السلفية، بهذا القرار. وهكذا أجمع المتدخلون في الندوة التي نظمتها اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، حول موضوع “قرار الداخلية منع إنتاج وبيع النقاب وتداعياته الشرعية والقانونية والحقوقية”، على رفض قرار وزارة الداخلية، معتبرين إياه غير مشروع ويتعسف على الحريات الفردية للمغاربة. وفي هذا السياق اعتبر الشيخ السلفي عبد الله أوعياش المكناسي أن “إمارة المؤمنين في المغرب لا يمكن أن تقوم وتستمر إلا بالحفاظ على مقدسات المغاربة الروحية والدينية وفي مقدمتها الحجاب”، وحمّل الدولة مسؤولية المحافظة على الأمن الروحي للمغاربة وحفظ مقدساتهم، تماشيا مع ما ينص عليه دستور البلاد في الشق المتعلق بإمارة المؤمنين ودين الدولة، الذي هو الإسلام السني المالكي.

وفي تعليقه على اعتبار لباس “البرقع” دخيلا على المجتمع المغربي، اعتبر المتحدث ذاته أن كلام البعض يعد أمرا مضحكا مبكيا من خلال القول إن النقاب دخيل لكونه قادما من المشرق؛ “لأن صحة هذا الكلام تستلزم الجزم بأن الإسلام أيضا دخيل على المجتمع المغربي ما دام هو الآخر قادما من الشرق”، وفق تصوره للموضوع، معتبرا أن هذا الطرح مجرد “حجة باطلة”. كما دافع حسن الكتاني، أحد شيوخ السلفية، ورئيس الرابطة العالمية للاحتساب، وعضو رابطة علماء المغرب العربي، على لباس المرأة المغربية الحجاب، أو لباس “البرقع”، من الناحية الشرعية، مستشهدا بآيات جاءت في سورتي “الأحزاب” و”النور”، أكدت على ستر المرأة لرأسها وصدرها وباقي أنحاء جسمها، ما عدا الوجه والكفين اللذين اختلف العلماء حول وجوب سترهما أو استحبابه فقط. وقال الكتاني، في المناسبة التي استضافها نادي المحامين بالرباط، إن “الأئمة والمذاهب الأربعة أجمعوا على كون وجه المرأة عورة لا يجب كشفها ويستحب سترها عن الفتن”، وأضاف أن مشروعية ستر المرأة في الإسلام “أمر مقرر لا جدال فيه”.

وإلى جانب هذه الردود، نظمت وقفات احتجاجية أمام مسجد الأندلس في حي أناسي بالدار البيضاء مباشرة بعد انتهاء صلاة الجمعة، وأخرى بباحة مسجد يوسف بن تاشفين بحي الأطلس وسط مدينة فاس، بالإضافة إلى تنظيم وقفة احتجاجية بتطوان. وفي السياق نفسه اعتبر محمد الزهاري، الأمين العام للتحالف الدولي لحقوق الإنسان بالمغرب، أن قرار مصالح وزارة الداخلية “شطط واضح في استعمال السلطة”، و”قابل للطعن فيه أمام المحكمة الإدارية”، مشيرا إلى أن وزارة الداخلية “لا يمكنها منع حق يتعلق بالحريات الفردية دون الاستناد إلى نص قانوني صريح أو نص تشريعي أو تنظيمي أو حتى قرار وزاري”؛ وفي المقابل وجه انتقادا لاذعا لصمت الجمعيات الحقوقية بالمغرب، وبالأخص فرعَ منظمة العفو الدولية بالمغرب، التي لم تبد أي رأي بخصوص هذا القرار.

وبالموازاة مع هذه المواقف والردود التي عبرت عنها بعض الأطياف الأصولية، وخاصة السلفية منها، حاول الناشط الحقوقي أحمد عصيد تغليب الجانب الأمني في ما يتعلق بتبرير هذا القرار. فإذا كانت المرجعية الكونية لحقوق الإنسان اعتبرت اللباس ضمن الحريات الفردية التي يعود اختيارها إلى الفرد ذاته، مع خلو الترسانة القانونية المغربية من أي موانع تقيد من حق الأفراد في اختيار نوعية لباسهم، إذ ترك المشرّع للمواطنين المغاربة حق اختيار لباسهم كان عصريا أو تقليديا، ما جعل “الفضاء العام الوطني أكثر ديمقراطية وعلمانية من فرنسا، التي ما فتئت تسعى إلى فرض المزيد من التضييق على أنواع من اللباس، وآخرها لباس البحر المعروف بـ”البوركيني”؛ فإن الجانب السياسي والأمني يطرح إشكالات جديدة مرتبطة بسياقات غير مسبوقة يمرّ بها بلدنا كما هو شأن البلدان المغاربية والعالمية الأخرى، ويتعلق الأمر تحديدا بتزايد مظاهر التطرف الديني الذي لم يعد يقف عند حدود نمط الحياة الفردية، بل أصبح يطمح إلى أن يصبح أنظمة ودولا بقوة السلاح وكل أساليب الضغط الاجتماعي والتحريض الإيديولوجي، ما جعل الكثير من مظاهر التديّن الإسلامي تتحول بسرعة كبيرة إلى آليات للاستقطاب والتعبير عن الموقف السياسي، وكذا للتجمّع في فضاءات خاصة (في الأحياء المهمّشة) منعزلة عن المجتمع والدولة، وهو ما أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لاستقرار العديد من البلدان التي لم تعرف من قبل هذا النوع من الظواهر بهذه الحدّة. كما تبيّن من بعض الأحداث الإرهابية استعمال “البرقع” و”الخمار” وكل أنواع اللباس الذي يخفي الوجه والجسم بكامله في التخفي بعد اقتراف جرائم إرهابية خطيرة، ما دفع ببعض الدول الغربية إلى التحفظ على هذا النوع من اللباس في الفضاء العام، الذي سرعان ما أصبح يشيع الرعب في أوساط السكان في مناطق مختلفة من العالم.

واستنادا إلى هذا المعطى، اعتبر هذا الباحث أنه على الرغم من بعض الملابسات التي صاحبت إصدار هذا القرار، والتي تمثلت في عدم تقديم السلطات المغربية لأي تفسير للإجراء الذي اتخذته، وعدم تهييء الرأي العام من خلال مد وسائل الإعلام بمعطيات دقيقة تسمح بمناقشة الموضوع أو معرفة مدى نجاعته وضرورته، بالإضافة إلى الطريقة التي فرضت بها السلطات على تجّار “البرقع” التخلص من بضاعتهم في 48 ساعة، دون احترام لأي مساطر قانونية، أو دون أن يكون ذلك مسبوقا بتقديم مشروع قانون وفق المسالك المعتادة للتشريع، وفتح نقاش مستفيض في الموضوع، فإن قيام الدولة بحماية المجتمع من التطرف والغلو بكل أنواعه، وضمان التعايش السلمي بين الجميع يدخل ضمن مهامها الأساسية التي من أجلها وُجدت، وإن كانت ملزمة بمراعاة مرجعياتها القانونية والسياسية وضوابط عملها، التي تمثل مصدر هيبتها لدى المواطنين.

وبعيدا عن هذا الجدل بكل ملابساته وخلفياته، فإن ظهور البرقع في الفضاء العام لا بد من ربطه بالتأثير الفكري والاقتصادي الخليجي، إذ إن هجرة شرائح نسوية واسعة إلى بلدان الخليج إما للعمل أو الزواج ارتد مع مرور الوقت باقتباس بعض العادات في اللباس النسوي لهذه الدول المحافظة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، إذ بدأت المغربيات، خاصة من بعض الشرائح الوسطى، يرتدين العباءات السوداء بمختلف أشكالها؛ في حين اضطرت النساء الوافدات من القرى والبوادي والمستقرات حديثا في المدن إلى ارتداء عباءات أرخص ببرقعها الأسود. ولعل ما زاد من تكريس هذه الظاهرة هو عودة العديد من السلفيين من أفغانستان بفكرهم السلفي وتشددهم في مراقبة أجساد نسائهم وبناتهم؛ وذلك بفرض هذا النوع من اللباس الأفغاني للسماح بتحركهن في الفضاء العمومي. كما أن تشجيع السلطة للفكر الوهابي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في محاولة لاحتواء المد الأصولي بتلويناته الشيعية والإخوانية، ومواجهة التيارات اليسارية الراديكالية، ساهم بشكل كبير في انتشار الفكر السلفي بكل تمظهراته، والتي كان من أبرزها اللباس الأفغاني للذكور، من سروال قصير وإطلاق اللحية مع تخضيبها، والعباءة السوداء ببرقعها الذي يلف جسد الإناث، بحيث لا يترك إلا ثقبا للعينين. ولعل الإقبال على هذا اللباس هو الذي دفع بعض التجار، خاصة في الاحياء الشعبية، إلى الإقدام على صنع هذا اللباس النسوي بمختلف مكوناته من عباءات وبرقع وبيعه بأثمان تناسب دخل هذه الأسر المحدود.

وبالتالي، فإن قرار وزارة الداخلية منع صنع وتسويق هذا اللباس لاعتبارات أمنية يقتضي أخذ هذا المعطى السوسيولوجي بعين الاعتبار، إذ من المفروض أن يتم العمل في البداية على ضبط هذه الورشات التي غالبا ما ستكون من ضمن القطاع غير المهيكل، وفق ضوابط القانون التجاري من خلال إخضاع هذه الأخيرة للباتنت، بعد الحصول على ترخيص من القسم الاقتصادي لمختلف العمالات بتراب المملكة. كما من الضروري أن يتم فرض مراقبة تسويق هذا اللباس من خلال إلزام المتاجرين فيه بتقييد أسماء كل النساء اللواتي يقتنين مثله مع أرقام بطائقهن الوطنية ومحل سكناهن. إلى جانب فرض مواصفات خاصة لصنع البرقع، ليتم تحويله من غطاء يغطي كامل الجسد والوجه إلى غطاء يغطي الجسد دون أن يغطي كل ملامح الوجه.

وبهذا يمكن للسلطة أن تقوم بواجبها في حفظ الأمن وترك الحرية لكل من تريد أن تتلفع بهذا البرقع في الفضاء العام، في تعايش مع شرائح النساء التي يفضل كل صنف منهن ارتداء اللباس العصري أو التقليدي أو الإخواني أو الأفغاني، الذي يتماشى مع قناعاتهن الفكرية وتربيتهن الأسرية وذوقهن الجمالي.

وعموما، يبدو أن ظاهرة الحجاب أو البرقع ستعرف المصير نفسه الذي عرفته الظاهرة “الهيبية” بالمغرب، فبعد إجراءات قمع ومتابعة السلطة، استمر “اللباس الهيبي” لأغراض مختلفة، إما سياحية أو ثقافية أو سياسية أو تجارية. والأمر نفسه نراه بالنسبة لظاهرة ارتداء الحجاب، الذي تحول إما لموضة فكرية أو موضة سياسية أو موضة تجارية. والحجاب يبقى رمزا غير مستقل بنفسه، يتحدد معناه حسب الخلفيات التي تحركه.

كما يمكن أن نعتبر ظاهرة الحجاب أو البرقع تعبيرا عن قناعة فكرية للاندماج في الحياة العامة، ونزوعا طبيعيا لشرائح مختلفة تتلمس طريقها وأسلوب حياتها بين تعقد الحياة العصرية وتهديدات العولمة الحضارية.

الاخبار العاجلة