لا شك أن من يختار لنفسه الحياة التي تناسبه وتلائمه يشتري حريته ولكنه في المقابل يدفع الثمن باهظا جدا، فالاختيار عموما فعل جريء ومكلف وشاق ومضن. فماذا لو كان الاختيار هذه المرة يرتبط ارتباطا وطيدا ومباشرا بامرأة في أواخر الأربعينات أو شارفت على أبواب الخمسينات جميلة ومستقلة ماديا وبسبب مجموعة من العوامل والظروف تختار شريكها الجنسي بمحض إرادتها وهي دائما مستعدة لدفع فاتورة الخدمات الجنسية مقابل الحصول عليه. امرأة كهذه يصعب تقبلها داخل مجتمع كمجتمعنا المغربي خاصة، والعربي عامة، وبالذات في العلن (فنحن عموما شعوب تعودت على تقبل ما يدخل ضمن خانة الممنوع والحرام والعيب والعار والفضيحة في الخفاء شريطة ألا يظهر ذلك للعلن، عذرا لسنا منافقين ولا مخادعين نحن ببساطة متناقضين مع أنفسنا وذلك ليس بالأمر الخطير)!
امرأة يقترن لقبها الذي بات مشهورا على أيامنا “الميمة” بالجنس، ذلك البعبع والفاكهة المحرمة، ذلك الذي يشتهيه الكل ويمارسه فكرا وفعلا، ذلك المحرم شرعا وعرفا، ذلك النمرود الذي يتسبب في الحرائق، ذلك المرغوب والممنوع والمشتهى والطابو.. كيف لمجتمع أن يرحم امرأة كهذه ولا يقص أجنحتها وإن فقط من خلال النظرات المستفزة والمحتقرة والألقاب والنعوت والصفات التي من شأنها أن تضعها داخل “صندوق المرفوض”؟ وما أكثر ما يرفضه مجتمعنا.
كيف لمجتمع ارتبط مفهوم القيم والشرف والأخلاق عنده “بغشاء البراءة والعفة والطهارة وطوق النجاة من الأحكام” أن يتقبل ويتعايش مع ظاهرة كظاهرة المّيمات وإن كان ضمنيا تعايش ومزال يتعايش معها لكن سرا حيث الظلمة والابتعاد عن الأنظار كاف لعدم إصدار الحكم بالإعدام؟ وما أقسى أنواع الإعدام الذي قد يطبقه مجتمع ما على أحد أفراده.
وفي المقابل، صاحبة الاختيار والقرار، صاحبة المال والسلطة، مهما ادعت من تحرر ومن عدم اكتراث للقيل والقال، ومهما غضت الطرف وأحكمت تغيير اتجاه العيون وطمس منافذ الآذان، إلا أنها في صميم الأعماق تتأرجح لا محالة بين ما تفعله وتعلم أن عليها ألا تفعله (خصوصا وأن هذا النوع من العلاقات مرتبط بالمصلحة والمتعة والمال وليس علاقة حب بين شجرتين من أعمار مختلفة). وفي حال استطاعت التغلب على الروادع الخارجية للمجتمع، فهل تستطيع حقا التخلص والتغلب على روادعها الداخلية والسيكولوجية؟
ظاهرة الميمات تقوم أساسا على محرك لا يحتاج فقط للقوة والصحة والفحولة ليدر المتع ويحقق الشهوات والرغبات، وإنما في هذه الحالة يحتاج لوقود من نوع آخر لكي يتحرك المحرك، ألا وهو المقابل المادي الذي ينتظره “الجيكولو” بعد نهاية كل خدمة!
إن هذه الظاهرة يصعب الجزم فيها وإصدار الأحكام عمن المخطئ فيها ومن الضحية ومن الجلاد. ظاهرة مازالت تحمي نفسها بنفسها بشتى الطرق كي لا تكشف عن أنياب أسرارها وأسباب تفشيها، وخصوصا عند النساء.
أقول هذا بعدما قوبلت محاولاتنا أثناء البحث وأثناء محاولة معرفة ردود فعل الشارع عن الظاهرة بالرفض في أغلب الأحيان، وبالأجوبة المقتضبة والخجولة التي تترافق واتساع العيون ودهشة الوجوه، أما بعض الشباب الذين يقيمون علاقات مع “الميمات” فكلهم خافوا على ميماتهم، وطبعا أتفهم هذا التخوف “النبيل والمشروع”، فمن يتجرأ على الحديث عن قصته مع “ميمة” يختار سواء التهرب بسرعة بحجة من الحجج وعدم إعطاء أجوبة مستفيضة أو الامتناع الكلي عن الرد. ولا داعي للاستعجاب فظاهرة “الميمات” أصبحت تشبه شركة توظيف للشباب في مهن “خفيفة ظريفة سريعة وأجرها مضمون” والشباب ما شاء الله عليه في خدمة الشعب!
إن ظاهرة الميمات تشرع الباب لأسئلة لا حصر لها، من بينها:
لماذا تختار “الميمة” علاقة مع شاب يصغرها سنا، خصوصا وأن الهدف الواضح بل والشرط الأول والأخير هو ممارسة الجنس لأيام أو أسابيع أو أشهر (أنت وزهرك)؟
هل يظلم المجتمع “الميمة” حين يوجه إليها اللوم والعتاب عن اختيارها لعلاقة مماثلة أم إنها تستحق أن تلام؟
وهل تحمل “الميمة” في المقابل في أعماقها كرها ولوما لمجتمع شغله الشاغل أن يصدر الفتاوى حول ما هو مباح وغير مباح؟
هل يمكننا أن نعتبر أن هذا النوع من العلاقات التي تقوم بها “الميمات” هو عبارة عن تعويض نفسي وطريقة لإثبات أن الشباب في القلب ولا دخل له بالعمر أو الشكل؟
هل هو انتقام من الزمن الذي يجري ويغدر أحيانا بصاحبه؟
هل هو انتقام من الآخر (الزوج، الحبيب…) الذي ربما لم يفهم المرأة التي أصبحت اليوم في نظر المجتمع “ميمة”؟
أسئلة كثيرة تضعنا أمامها ظاهرة الميمات، وفي غياب رد صريح ومباشر “للميمة” نفسها، سنحاول فهم الموضوع علنا ننجح في ذلك!
في البداية أريد أن أطمئن القارئ أن الظاهرة منتشرة بالبلدان الأوروبية أيضا، ففي فرنسا “الميمات” هن Les cougars، لكن هذا ليس بالأمر الهام، فجل المشاكل التي قد تواجه النساء الغربيات قد تواجه النساء العربيات (فكلاهما تتعرض، على سبيل المثال، للعنف الزوجي أو الاغتصاب أو التحرش الجنسي الخ… مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الامتيازات التي قد تتوفر لدى المرأة الغربية على عكس نظيرتها العربية، إلا أن الاختلاف الوحيد يكمن في تفاوت حدة هذه المشاكل من مجتمع إلى آخر وطريقة تعامل هذا الأخير معها).
ولِمَ نذهب بعيدا، لنبدأ بالظاهرة نفسها. ففي فرنسا تظهر “الميمات” في البرامج رفقة الشباب الذين يصغرونهن سنا يتتحدثن عن تجربتهن وعن وجهة نظرهن حول الموضوع. نساء يواجهن بكل قوة وفخر ويبررن اختيارهن بوجوه مكشوفة ورؤوس مرفوعة. وأذكر أن إحدى السيدات التي ظهرت في أحد البرنامج عللت اختيارها لشاب أصغر منها للدخول معه في علاقة بثلاث نقاط: أولها صحة الشاب وفحولته، ثانيا حبها للبراءة والحرية التي يمتلكها الشاب، وأيضا لأن الشاب لا يمانع سفرة مفاجئة في عطلة نهاية الأسبوع كي تغير “الميمة الفرنسية” مزاجها وتستمتع بحياتها على عكس رجل من عمرها الذي قد لا تتوفر فيه الشروط السابقة أعلاه، حسب ما قالته “ميمة قوس النصر”.
لنعود الآن إلى الواقع، وبالضبط إلى مجتمعنا العربي حيث أقل ما قد توصف به “ميمة” تطل على الهواء مباشرة بأنها “شارفة وكتمشي مع ولد قد ولادها لعنة الله عليها”، وما هذا غيض من فيض مما قد يقال.
لا شك أن من الطبيعي أن يثور مجتمعنا العربي ضد ظاهرة مماثلة، بل ويستنفر ويشمئز منها لأننا لم نعتد على تقبل ظواهر مماثلة يراها معظمنا خارجة عن المألوف وعن التقاليد والعادات وعن المسموح به.
لكن “الميمة” لا يهمها المجتمع وإنما تهمها سعادتها التي تشتريها بمالها حيث الشعار المسيطر هو “المال مقابل الجسد”. والميمات عموما نسوة تخلصن بشكل أو بآخر من ضغوط المجتمع، فإما أن يكنّ مطلقات وبالتالي طريق العبور لا غبار عليه، أو متزوجات وغير مكتفيات بالأزواج المشغولين الذين يسافرون كثيرا أو الذين في بعض الأحيان أجبرن على الزواج منهم في سن مبكرة، أو نسوة مستقلات ماديا يرفضن الارتباط ويريحهن هذا النوع من العلاقات حيث لا قيود تفرض ولا أوامر تلبى.
انطلاقا من بروفايل الميمات أعلاه، يمكننا القول إنهن مع اختلاف وضعيتهن وقصصهن إلا أنهن يشتركن في نقاط معينة يأتي على رأسها: المال والسلطة التي يمنحها إياهن هذا الأخير، ثم حالتهن الاجتماعية التي تسمح لهن بالتمرد والإقبال على خوض تجارب من هذا النوع بلغة أسهل (ما خاسرين والو) أو لنقل هذا على الأقل ما يعتقدن.
تقول الدكتورة نوال السعداوي في كتابها المرأة والجنس:
“إن ضغوط المجتمع الأخلاقية جعلت المرأة تكبت رغبتها الجنسية وتكبت معها أيضا الرغبة في الحرية الشخصية بصفة عامة. فالرغبة الجنسية ليست رغبة جسمية فحسب ولكنها رغبة نفسية للحب والحرية”.
فهل يمكننا اعتبار أن الميمة امرأة عانت من الكبت الجنسي فقررت تلبية حاجاتها ورغباتها بالشكل والطريقة التي ترضيها؟
وهل من المحتمل أن تنمو بذور الحب في قلبها؟ وهل تبحث فعلا عن الحب؟ هل ينطبق عليها ما قاله نزار قباني حين تساءل “أليس الحب للإنسان عمرا داخل العمر؟”.
أستبعد ذلك، فلا يمكن لحب أن ينمو فقط من خلال الجنس وحده ولا يمكن لعلاقة تعتمد على الأخلاق الابيقورية وحدها وتؤدي أجر الدروس الليلية الخاصة أن تعرف معنى الحب؟
لا أريد أن أحكم على أحد لكن عذرا لا بوادر لمشروع حب في علاقات مماثلة. لكن على ما يبدو “الميمة” امرأة لا تستسلم لمقياس العمر، وخصوصا حين يتعلق الأمر بالجانب الجنسي الذي تقتنيه بمالها.
فسن “الميمة” الذي قد يبدأ من أواخر الثلاثينات وصولا إلى الأربعينات، يقال إنه السن والفترة العمرية التي تصبح فيها المرأة مدركة لحاجاتها الجنسية ولما يمتعها ويسعدها، وهذا ما نشرته جريدة “اليوم السابع” الالكترونية حول دراسة قام بها مجموعة من الأكاديميين بجامعة تكساس أثبتت ان المرأة تستمتع بممارسة الجنس وهي في سن الثلاثين وأوائل الأربعين أكثر من مرحلة الشباب، وهذا ما جاء في الدراسة:
“ذكرت صحيفة التليجراف البريطانية تأكيد الباحثين أن رد الفعل الغريزى عند النساء بعد توقف مرحلة الإنجاب وانخفاض الخصوبة هو زيادة الشهية لممارسة الجنس، وهو الشيء الذي يمكن أن يفسر سعى المرأة إلى العلاقات المؤقتة مع الشركاء الأصغر سنا.
طبقت الدراسة على ما يقرب من 900 امرأة، وتم تقسيمهن إلى ثلاث مجموعات، الأولى لمن ترتفع عندهن درجة الخصوبة اللواتي تتراوح أعمارهن بين (19-26) عاما، وأولئك اللواتي تنخفض لديهن الخصوبة وتتراوح أعمارهن بين (27-45) عاما، وأولئك اللواتي يقتربن أو وصلن إلى سن اليأس، وكانت تلك المجموعة الوسطى تتميز بالاندفاع الجنسى إلى حد كبير والانخراط فى ممارسة الجنس.
وقال البروفسور ديفيد باس: “تشير النتائج إلى زيادة الدوافع الجنسية وزيادة السلوكيات الجنسية عند النساء ذات الخصوبة المنخفضة أكثر من النساء ذات الخصوبة العالية نسبيا”.
إن ظاهرة الميمات هي علاقة قائمة أساسا حول الجنس، “فالميمة” تدفع ثمن شهواتها وتوقف قطار الزمن بدريهماتها، و”الجيكولو” يستفيد ليس فقط ماديا وإنما أيضا تطبيقيا من “خبرة وحنكة ميمتو”، إذ تقول العينة س حرفيا: “الحاجة الي استفدت هي كيفاش تشبع الرغبة ديال المرأة” يا لفخرك، مبروك شهادة التخرج إذن!
خلاصة القول، إن كنت بدأت هذا المقال بمجموعة من الأسئلة فصدقا وأنا أختتمه أنجبت أسئلة أخرى في عقلي، لكن بعيدا عن فلك الأسئلة الذي لا ينضب، حري بنا أن نعترف بأنه قبل أن نصدر حكما كيفما كان على ظاهرة مثل هذه أو على غيرها من الظواهر، فلا يجب أن نعاقب ونحاكم أطراف الموضوع فقط، بل أنفسنا أيضا. فنحن بشكل أو بآخر مساهمون كون كل الظواهر الاجتماعية لا يمكن فصلها عن محيطها، لذلك حبذا لو نسائل محيط كل من “الميمة” و”الجيكولو” أيضا.
أما عن الجنس، فأقول إن تركيبة مجتمعاتنا ساهمت بدورها في جعله يبدو وحشا وتنينا كما يراه معظمنا الآن لأن مجتمعاتنا العربية من خلال ما مارسته ومازالت من كبت وقمع ليس لفعل الجنس فقط وإنما لفرصة السؤال والاستفسار عنه ومحاولة فهمه بدءا من فضول طفل إلى استعجاب مراهق وصولا إلى أزمة ذكر في فهم ما يجري من حوله.
ألسنا نحن المجتمعات نفسها التي تشرف امرأة في إحدى القبائل على حضور ليلة الدخلة مع العريسين لكي تقوم بفض بكارة العروس بأصبعها كدليل على البراءة وهي الشاهدة التي “شافت كل حاجة”؟
ألسنا نحن الشعوب نفسها التي تنعت من تمارس الجنس مع حبيبها بالعاهرة وينتهي بها المطاف بأن يتزوج “مرضي الوالدين” من ابنة عمه أو ابنة خاله؟
هل في نظركم مجتمع لا يرحم سيقبل بوجود “ميمة” ويفتح لها أحضانه ويرحب بها في العلن؟ لنبسط السؤال:
من الذي يخدع الآخر.. المرايا هي التي تخدع الوجوه أم إن الوجوه هي التي تخدع المرايا؟
أعتقد أن الجواب واضح.